كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



{ياموسى إِنَّهُ أَنَا الله} الهاء للشأن و{أَنَا الله} جملة مفسرة له، أو للمتكلم و{أَنَاْ} خبره و{الله} بيان له. {العزيز الحكيم} صفتان لله ممهدتان لما أراد أن يظهره، يريد أنا القوي القادر على ما يبعد من الأوهام كقلب العصا حية الفاعل كل ما أفعله بحكمة وتدبير.
{وَأَلْقِ عَصَاكَ} عطف على {بُورِكَ} أي نودي أن بورك من في النار وأن ألق عصاك، ويدل عليه قوله: {وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ} بعد قوله: {أَن يَا موسى إِنّي أَنَا الله} بتكرير أن. {فَلَمَّا رَءَاهَا تَهْتَزُّ} تتحرك باضطراب. {كَأَنَّهَا جَانٌّ} حية خفيفة سريعة، وقرىء {جأن} على لغة من جد في الهرب من التقاء الساكنين. {ولى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ} ولم يرجع من عقب المقاتل إذا كر بعد الفرار، وإنما رعب لظنه أن ذلك الأمر أريد به ويدل عليه قوله: {يَا مُوسَى لاَ تَخَفْ} أي من غيري ثقة بي أو مطلقًا لقوله: {إِنّى لاَ يَخَافُ لَدَىَّ المرسلون} أي حين يوحى إليهم من فرط الاستغراق فإنهم أخوف الناس أي من الله تعالى، أو لا يكون لهم عندي سوء عاقبة فيخافون منه.
{إَلاَّ مَن ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا بَعْدَ سُوء فَإِنّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ} استثناء منقطع استدرك به ما يختلج في الصدر من نفي الخوف عن كلهم، وفيهم من فرطت منه صغيرة فإنهم وإن فعلوها أتبعوا فعلها ما يبطلها ويستحقون به من الله مغفرة ورحمة فإنه لا يخاف أيضًا، وقصد تعريض موسى بوكزه القبطي. وقيل متصل وثم بدل مستأنف معطوف على محذوف أي عن ظلم ثم بدل ذنبه بالتوبة.
{وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ} لأنه كان بمدرعة صوف لا كم لها. وقيل الجيب القميص لأنه يجاب أي يقطع. {تَخْرُجْ بَيْضَاء مِنْ غَيْرِ سُوء} آفة كبرص. {فِي تِسْعِ ءَايَاتٍ} في جملتها أو معها على أن التسع هي، الفلق، والطوفان، والجراد، والقمل، والضفادع، والدم، والطمسة، والجدب في بواديهم، والنقصان في مزراعهم ولمن عد العصا واليد من التسع أن يعد الأخيرين واحدًا ولا يعد الفلق لأنه لم يبعث به إلى فرعون. أو اذهب في تسع آيات على أنه استئناف بالإِرسال فيتعلق به. {إلى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ} وعلى الأولين يتعلق بنحو مبعوثًا أو مرسلًا. {إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْمًا فاسقين} تعليل للإِرسال.
{فَلَمَّا جَاءتْهُمْ ءاياتنا} بأن جاءهم موسى بها. {مُبْصِرَةً} بينة اسم فاعل أطلق للمفعول، وإشعارًا بأنها لفرط اجتلائها للأبصار بحيث تكاد تبصر نفسها لو كانت مما يبصر، أو ذات تبصر من حيث إنها تهدي والعمي لا تهتدي فضلًا عن أن تهدي، أو مبصرة كل من نظر إليها وتأمل فيها. وقرىء {مُبْصِرَةً} أي مكانًا يكثركم فيه التبصر. {قَالُواْ هذا سِحْرٌ مُّبِينٌ} واضح سحريته.
{وَجَحَدُواْ بِهَا} وكذبوا بها. {واستيقنتها أَنفُسُهُمْ} وقد استيقنتها لأن الواو للحال. {ظُلْمًا} لأنفسهم. {وَعُلُوًّا} ترفعًا عن الإِيمان وانتصابهما. على العلة من {جَحَدُواْ}. {فانظر كَيْفَ كَانَ عاقبة المفسدين} وهو الإِغراق في الدنيا والإِحراق في الآخرة.
{وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا دَاوُودَ وسليمان عِلْمًا} طائفة من العلم وهو علم الحكم والشرائع، أو علمًا أي علم. {وَقَالاَ الحمد لِلَّهِ} عطفه بالواو إشعارًا بأن ما قالاه بعض ما أتيا به في مقابلة هذه النعمة كأنه قال: ففعلا شكرًا له ما فعلا {وَقَالاَ الحمد لِلَّهِ}. {الذى فَضَّلَنَا على كَثِيرٍ مّنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ} يعني من لم يؤت علمًا أو مثل علمهما، وفيه دليل على فضل العلم وشرف أهله حيث شكرا على العلم وجعلاه أساس الفضل ولم يعتبرا دونه ما أوتيا من الملك الذي لم يؤت غيرهما، وتحريض للعالم على أن يحمد الله تعالى على ما آتاه من فضله وأن يتواضع ويعتقد أنه وإن فضل على كثير فقد فضل عليه كثير.
{وَوَرِثَ سليمان دَاوُودَ} النبوة أو العلم أو الملك بأن قام مقامه في ذلك دون سائر بنيه وكانوا تسعة عشر.
{وَقَالَ يَا أَيُّهَا الناس عُلّمْنَا مَنطِقَ الطير وَأُوتِينَا مِن كُلّ شَيْءٍ} تشهيرًا لنعمة الله وتنويهًا بها ودعاء الناس إلى التصديق بذكر المعجزة التي هي علم منطق الطير وغير ذلك من عظائم ما أوتيه، والنطق والمنطق في المتعارف كل لفظ يعبر به عما في الضمير مفردًا كان أو مركبًا وقد يطلق لكل ما يصوت به على التشبيه، أو التبع كقولهم نطقت الحمامة ومنه الناطق والصامت للحيوان والجماد، فإن الأصوات الحيوانية من حيث إنها تابعة للتخيلات منزلة منزلة العبارات سيما وفيها ما يتفاوت باختلاف الأغراض بحيث يفهمها ما من جنسه، ولعل سليمان عليه الصلاة والسلام مهما سمع صوت حيوان علم بقوته القدسية التخيل الذي صوته والغرض الذي توخاه به. ومن ذلك ما حكي أنه مر ببلبل يصوت ويترقص فقال: يقول إذا أكلت نصف تمرة فعلى الدنيا العفاء، وصاحت فاختة فقال: إنها تقول ليت الخلق لم يخلقوا، فلعله كان صوت البلبل عن شبع وفراغ بال وصياح الفاختة عن مقاساة شدة وتألم قلب، والضمير في {عَلِمْنَا} {وَأُوتِينَا} له ولأبيه عليهما الصلاة والسلام أوله وحده على عادة الملوك لمراعاة قواعد السياسة، والمراد {مِن كُلِّ شَيْءٍ} كثرة ما أوتي كقولك: فلان يقصده كل أحد ويعلم كل شيء. {إِنَّ هذا لَهُوَ الفضل المبين} الذي لا يخفى على أحد.
{وَحُشِرَ} وجمع. {لسليمان جُنُودُهُ مِنَ الجن والإنس والطير فَهُمْ يُوزَعُونَ} يحبسون بحبس أولهم على آخرهم ليتلاحقوا.
{حتى إِذَا أَتَوْا على وَادِي النمل} واد بالشام كثير النمل، وتعدية الفعل إليه ب {على} إما لأن إتيانهم كان من عال أو لأن المراد قطعة من قولهم: أتى على الشيء إذا أنفده وبلغ آخره كأنهم أرادوا أن ينزلوا أخريات الوادي. {قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النمل ادخلوا مساكنكم} كأنها لما رأتهم متوجهين إلى الوادي فرت عنهم مخافة حطمهم فتبعها غيرها فصاحت صيحة نبهت بها ما بحضرتها من النمال فتبعتها، فشبه ذلك بمخاطبة العقلاء ومناصحتهم ولذلك أجروا مجراهم مع أنه لا يمتنع أن خلق الله سبحانه وتعالى فيها العقل والنطق. {لاَ يَحْطِمَنَّكُمْ سليمان وَجُنُودُهُ} نهي لهم عن الحطم، والمراد نهيها عن التوقف بحيث يحطمونها كقولهم: لا أرينك ها هنا، فهو استئناف أو بدل من الأمر لا جواب له فإن النون لا تدخله في السعة. {وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ} بأنهم يحطمونكم إذ لو شعروا لم يفعلوا كأنها شعرت عصمة الأنبياء من الظلم والإِيذاء. وقيل استئناف أي فهم سليمان والقوم لا يشعرون.
{فَتَبَسَّمَ ضاحكا مّن قَوْلِهَا} تعجبًا من حذرها وتحذيرها واهتدائها إلى مصالحها، وسرورًا بما خصه الله تعالى به من إدراك همسها وفهم غرضها ولذلك سأل توفيق شكره. {وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ} أي اجعلني أزع شكر نعمتك عندي، أي أكفه وأرتبطه لا ينفلت عني بحيث لا أنفك عنه، وقرأ البزي وورش بفتح ياء {أَوْزِعْنِي}.
{التي أَنْعَمْتَ عَلَىَّ وعلى وَالِدَىَّ} أدرج فيه ذكر والديه تكثيرًا للنعمة أو تعميمًا لها، فإن النعمة عليهما نعمة عليه والنعمة عليه يرجع نفعها إليهما سيما الدينية. {وَأَنْ أَعْمَلَ صالحا ترضاه} إتمامًا للشكر واستدامة للنعمة. {وَأَدْخِلْنِى بِرَحْمَتِكَ في عِبَادِكَ الصالحين} في عدادهم الجنة.
{وَتَفَقَّدَ الطير} وتعرف الطير فلم يجد فيها الهدهد. {فَقَالَ مَا لِيَ لاَ أَرَى الهدهد أَمْ كَانَ مِنَ الغائبين} أم منقطعة كأنه لما لم يره ظن أنه حاضر ولا يراه لساتر أو غيره فقال: ما لي لا أراه، ثم احتاط فلاح له أنه غائب فأضرب عن ذلك وأخذ يقول أهو غائب كأنه يسأل عن صحة ما لاح له.
{لأُعَذّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا} كنتف ريشه وإلقائه في الشمس، أو حيث النمل يأكله أو جعله مع ضده في قفص. {أَوْ لأَذْبَحَنَّهُ} ليعتبر به أبناء جنسه. {أَوْ لَيَأْتِيَنّي بسلطان مُّبِينٍ} بحجة تبين عذره، والحلف في الحقيقة على أحد الأولين بتقدير عدم الثالث لكن لما اقتضى ذلك وقوع أحد الأمور الثلاثة ثلث المحلوف عليه بعطفه عليهما، وقرأ ابن كثير أو {ليأتينني} بنونين الأولى مفتوحة مشددة.
{فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ} زمانًا غير مديد يريد به الدلالة على سرعة رجوعه خوفًا منه، وقرأ عاصم بفتح الكاف. {فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ} يعني حالًا سبأ، وفي مخاطبته إياه بذلك تنبيه له على أن في أدنى خلق الله تعالى من أحاط علمًا بما لم يحط به لتتحاقر إليه نفسه ويتصاغر لديه علمه، وقرىء بإدغام الطاء في التاء بإطباق وبغير إطباق. {وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ} وقرأ ابن كثير برواية البزي وأبو عمرو غير مصروف على تأويل القبيلة والبلدة والقواس بهمزة ساكنة. {بِنَبَإٍ يَقِينٍ} بخبر متحقق روي أنه عليه الصلاة والسلام لما أتم بناء بيت المقدس تجهز للحج فوافى الحرم وأقام بها ما شاء، ثم توجه إلى اليمن فخرج من مكة صباحًا فوافى صنعاء ظهيرة فأعجبته نزاهة أرضها فنزل بها ثم لم يجد الماء وكان الهدهد رائده لأنه يحسن طلب الماء فتفقده لذلك فلم يجده إذ حلق حين نزل سليمان فرأى هدهدًا واقعًا فانحط إليه فتواصفا وطار معه لينظر ما وصف له، ثم رجع بعد العصر وحكى ما حكى، ولعل في عجائب قدرة الله وما خص به خاصة عباده أشياء أعظم من ذلك يستكبرها من يعرفها ويستنكرها من ينكرها.
{إِنّي وَجَدتُّ امرأة تَمْلِكُهُمْ} يعني بلقيس بنت شراحيل بن مالك بن الريان، والضمير لسبأ أو لأهلها. {وَأُوتِيَتْ مِن كُلّ شَيْء} يحتاج إليه الملوك. {وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ} عظمه بالنسبة إليها أو إلى عروش أمثالها. وقيل كان ثلاثين ذراعًا في ثلاثين عرضًا وسمكًا، أو ثمانين من ذهب وفضة مكللًا بالجواهر.
{وَجَدتُّهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِن دُونِ الله} كأنهم كانوا يعبدونها. {وَزَيَّنَ لَهُمُ الشيطان أعمالهم} عبادة الشمس وغيرها من مقابح أعمالهم. {فَصَدَّهُمْ عَنِ السبيل} عن سبيل الحق والصواب. {فَهُمْ لاَ يَهْتَدُونَ} إليه.
{أَلاَّ يَسْجُدُواْ للَّهِ} فصدهم لئلا يسجدوا أو زين لهم أن لا يسجدوا على أنه بدل من {أعمالهم}، أو {لاَ يَهْتَدُونَ} إلى أن يسجدوا بزيادة {لا}. وقرأ الكسائي ويعقوب {إِلا} بالتخفيف على أنها للتنبيه ويا للنداء ومناداه محذوف أي: ألا يا قوم اسجدوا كقوله:
وَقَالَتْ أَلاَ يَا اسْمَعْ أَعِظكَ بِخطَّةٍ ** فَقُلْتُ سَمِيعًا فَانْطِقِي وَأَصِيبِي

وعلى هذا صح أن يكون استئنافًا من الله أو من سليمان والوقف على {لاَ يَهْتَدُونَ}، فيكون أمرًا بالسجود وعلى الأول ذمًا على تركه وعلى الوجهين يقتضي وجوب السجود في الجملة لا عند قراءتها، وقرىء {هلا} و{هلا} بقلب الهمزة هاء و{ألا تسجدون} و{هلا تسجدون} على الخطاب. {الذي يُخْرِجُ الخبء فِي السموات والأرض وَيَعْلَمُ مَا يُخْفُونَ وَمَا يُعْلِنُونَ} وصف له تعالى بما يوجب اختصاصه باستحقاق السجود من التفرد بكمال القدرة والعلم حثًا على سجوده وردًا على من يسجد لغيره، و{الخبء} ما خفي في غيره وإخراجه إظهاره، وهو يعم إشراق الكواكب وإنزال الأمطار وإنبات النبات بل الإِنشاء فإنه إخراج ما في الشيء بالقوة إلى الفعل والإِبداع، فإنه إخراج ما في الإِمكان والعدم إلى الوجوب والوجود ومعلوم أنه يختص بالواجب لذاته. وقرأ حفص والكسائي {مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ} بالتاء.
{الله لاَ إله إِلاَّ هُوَ رَبُّ العرش العظيم} الذي هو أول الأجرام وأعظمها والمحيط بجملتها فبين العظيمين بون. اهـ.